Jan 5, 2016

طوق من الشوك للشعر العراقي




نظمت مجموعة من الشعراء العراقيين قراءة شعرية في حقول ألغام بالقرب من محافظة بابل وسط العراق‮. ‬انتشرت عبر الفيسبوك صور الشعراء عراة وملطخين بالطين يلقون قصائدهم في فضاء صحراوي مفتوح‮. ‬وغطت وسائل الإعلام تجربة المجموعة في حالة دهشة من هذا الاقتراب الحميمي تجاه العنف‮. ‬

يؤكد أعضاء‮ "‬ميليشيا الثقافة‮" ‬أن قصائدهم لا ترثي أحداً،‮ ‬كما أنها لا تتوجه لجمهور مباشر لأنهم مؤمنون بموت المتلقي‮. ‬يقود الميليشيا تسعة شعراء هم أحمد ضياء،‮ ‬أحمد جبور،‮ ‬حسن تحسين،‮ ‬علي تاج الدين،‮ ‬علي ذرب،‮ ‬مازن المعموري،‮ ‬محمد كريم،‮ ‬كاظم خنجر ووسام علي.في القرن الماضي،‮ ‬كان سركون بولص قد رسم صورة عن العراقي في آخر الزمن منثوراً‮ ‬في طواحين بابل الصدئة‮. ‬وكان ذاك العراقي الأخير يفترض الحميمية مع الأشياء ويشغل باله بآخر ليس له وجود‮. ‬في حياته تظهر‮ "‬النكبات‮" ‬و"المجازر‮" ‬و"الأسوار‮" ‬لتقوم فوقها‮ "‬أوروك‮" ‬من جديد‮. ‬ولكن الآن بعد أن مات العراقي مع نهاية الوقت،‮ ‬صار علي أوروك أن تنام بلا رجعة‮. ‬لذا يحاول شعراء الميليشيا الانخراط في عدمية جديدة تقاطع الأبعاد وتنشغل باحتمالات قضاء اليوم‮. ‬فما جدوي‮ (‬بقايا بابل‮) ‬في القصيدة دون الدبابة التي سحقتها؟ كيف يمكن للواحد أن يعيش دون نصفه؟

من بابل ذاتها‮ - ‬مكان انتهاء العالم،‮ ‬حيث صور الطبيعة المتطفلة السحيقة‮- ‬يحاول الشاعر دخول حالة فرادية مع الآلة‮. ‬لذا خرجت علينا هذه الميليشيا مقتحمة سكينة الحرب لتبعث بالأدرينالين في عروق الصفائح‮. ‬ولد أغلب شعراء الميليشيا في الثمانينات والتسعينات‮. ‬عبر نصوصهم وقراءاتهم،‮ ‬يتقافزون في مواجهة العنف اليومي بخطوات تراجيدية لاذعة أو خفيفة ومتحايلة،‮ ‬ليقدموا لنا عصارة حكمتهم‮: ‬إن كنت ستعيش برفقة العنف،‮ ‬فقد يكون من المفيد التسامر معه‮. ‬


صدر ديوان الميليشيا الأول تحت عنوان‮ "‬الشعر في حقول الألغام‮" ‬عن دار مخطوطات في لاهاي‮ ‬،‮ ‬التي وفرت نسخة إلكترونية مفتوحة من الديوان عبر الفورشيرد‮. ‬وسم الناشر ناصر مؤنس نسخة الديوان بيد ملتهبة ذات بنصر معقوف لتكون يد المليشيا الصلبة‮. ‬وكتب عبدالرحمن الماجدي في مقدمته لديوان الميليشيا أن هذه الكتابات/القراءات تؤكد علي‮ "‬أحد أدوار الأدب والفن كمحرض للجمهور" ‬بل إنه لاحقاً‮ ‬يحرضهم علي اقتحام شارع المتنبي والمهرجانات التقليدية وقد‮ ‬غلبت علي نبرته حالة من الإثارة والتشوق‮. ‬عبر هذه العدمية،‮ ‬يحلم الشاعر‮ - ‬بقلب مفتوح‮- ‬بقتل العشرات في موجة هادرة من الرصاص‮. ‬يكتب علي ذرب مثلاً‮: ‬
كانت مصادفة أن أعثر في نهاية صوتِك علي إصبعي‮. ‬
وأنا عار أنوي رميَ‮ ‬العالم بالرصاص ؟‮"‬

تتحجج الميليشيا بأن طبيعة عملهم العنيفة لا تسمح بانضمام النساء لهم،‮ ‬علي اعتبار أن النساء‮ ‬غير قادرات علي العنف والتناص معه وتمثيله‮. ‬كثيراً‮ ‬ما يتم تجديد هذا الافتراض عن ذكورية العنف،‮ ‬بأن الحرب من صنع الرجال وبالتالي هي لعبتهم وحدهم يبدأونها وينهونها ويموتون خلالها‮. ‬وكأن العراقية لم تمت في المقابر الجماعية،‮ ‬ولم تلفظ أنفاسها الأخيرة في سيارة اسعاف،‮ ‬ولم تحمل السرطان في جسدها بفعل الاشعاعات النووية،‮ ‬ولم ترتد حزاماً‮ ‬ناسفاً‮ ‬من قبل‮!‬

يعود السؤال مرة أخري إلي احتمالات قضاء اليوم،‮ ‬وعما يتبقي من فتات النهاية‮. ‬لذا يذهب النص إلي استخدام الافتراضي كوسيط لتأمل الموت المدوي المكرر‮. ‬هذا يعني أن الآلة لا تحضر فقط عبر الكتل الصلبة‮  ‬الزاحفة والمحلقة‮- ‬بل في وجودها كأداة للفرجة أثناء محاولة الإنسان تأمل ذاته كما فعل آلهة الأولمب به من قبل‮. ‬بذا تصبح الشاشة الإلكترونية نافذة إلي المستقبل،‮ ‬أداة لإعادة انتاج اللحظة ومطها وحرقها وتحريرها‮. ‬نجد وسام علي متسائلاً‮: ‬
‮"‬بعدما يتفجر رأسي،‮ ‬
هل سيتدحرج علي شاشة اليوتيوب أمام أعين أصدقائي؟‮" ‬

ثم يحكي من بعده كاظم خنجر‮: "‬نشروا صورة جثته علي ال"فايسبوك‮"‬،‮ ‬أخي الأصغر،‮ ‬وبعدما عجزنا عن العثور عليها،‮ ‬قمنا بطباعة الصورة،‮ ‬تغسيلها،‮ ‬تكفينها،‮ ‬ودفنها في مقبرة العائلة‮. ‬
ليستذكر لاحقاً‮: ‬عندما تزور أخاك في السجن يتحقق الحراس من الكومبيوتر علي أنَّ‮ ‬اسمك ليس مدرجاً‮ ‬في قائمة المطلوبين وأنك لست إرهابياً‮. ‬

في صورهم،‮ ‬يلتقط الشعراء اللحظات الجامدة من اقتراب الجسد نحو القامة المستلقية لسيارة اسعاف أو عند طوافه حول مفاعل نووي‮ "‬مشع‮" ‬بالجمال وكأنه مجرد مايكروويف‮. ‬في أغلب القصائد،‮ ‬يبدو الجسد باعتباره الحاسة الواحدة والوحيدة‮. ‬ما يحدث للجسد هو كل ما يحدث في التجربة‮.
‬انظروا مثلاً‮ ‬إلي فراسخ ساعة أحمد ضياء وهي‮ "‬تفركُ‮ ‬مخاضها القابعُ‮ ‬بالألغام،‮ ‬ناثرةً‮ ‬غائطها الكهروبلاستيكي،‮ ‬لحظة هطول يدك‮. ‬ثم انظر إلي قوله‮ "‬جسدي زلقٌ‮ ‬ينفلتُ‮ ‬من قبضةِ‮ ‬حائطٍ‮ ‬ملتهبٍ،‮ ‬يهرعُ‮ ‬راكضاً‮ ‬نحو خلاصه‮/ ‬يسحبُني القاتلُ‮ ‬بحزامه،‮ ‬بعبوتيه الناسفتينِ،‮ ‬بسياراته المفخخة نحو برجينِ‮ ‬منصهرين من الحياة‮."
‬نتفرج هنا علي تكاثر الإنسان عند نقاط التقاء العنف بالجسد‮.  ‬من خلال حاسة الجسد أيضاً،‮ ‬يصبح بمقدورنا التماس عذوبة متحجرة مثل تلك التي يحكي عنها ضياء في‮ "‬أسلاك شرايينه النابتة‮" ‬حين تواجه‮ "‬البشر كإطارات ملغومة‮.
‬أما في قصائد علي ذرب،‮ ‬فتتداخل الأجساد،‮ ‬لتعبر بعضها البعض كما لو أنها أغشية شفافة‮. ‬يكتب ذرب في قصيدة أخري أن‮:‬
‮ "‬القاصراتُ‮ ‬لا يمارسن النكاح‮ ‬
إنما يعلقن صورهن كإعلاناتٍ‮ ‬عن معجون الأسنان الجديد‮ ‬
وأصباغ‮ ‬تلوين الأظفارِ‮ ‬في مدنٍ‮ ‬محذوفة‮." 
تتلاصق أجساد البشر والأشياء عبر صورها،‮ ‬لكنها تفني في النهاية مع انكشاف وهمية المكان‮. ‬إن الجسد مسرح للعنف اليومي،‮ ‬تتحارب فوقه العناصر لينتصر هو بفعل الفرجة‮. ‬
في قصائد هذه الأنطولوجيا نجد حالة انسجام شجاعة مع انسياب الزمن فالشخوص لا تغيب دائماً‮ ‬عن قصائد الميليشيا،‮ ‬لكنها راضية عن زوالها المرتقب،‮ ‬لا تتهرب منه ولا تتوجسه‮. ‬وفي هذه القصائد،‮ ‬لا يمكن اعتبار صوت الشاعر وتأملاته تعبيراً‮ ‬عن فردية فرويدية‮. ‬حتي إن الجموع تنتفخ وتضيق من حوله في دوائر فقاعية‮. ‬يقول كاظم خنجر في تعريفه الشخصي أنه‮ "‬شخصية‮ ‬وهمية‮"‬،‮ ‬أي أنه‮ - ‬بالاسم والصفة‮- ‬ينفي الفردية مرتين‮.‬

* نشرت في أخبار الأدب 

No comments:

Post a Comment